وليد الزبيدي
ملخص القصة التي انشغلت بها الدوائر الإعلامية والسياسية وتدارستها الأجهزة الاستخبارية بعناية فائقة في دهاليز مغلقة، تتمثل في المعلومات التي تواترت وتصدرت نشرات الأخبار عن تعاون عسكري واسع بين أحد فصائل المقاومة العراقية البارزة (كتائب ثورة العشرين) والقوات الأميركية.
" ما ساعد في تقبل الكثيرين للمعلومات التي تتحدث عن التعاون بين كتائب العشرين وقوات الاحتلال هو حصول مواجهات بين الفريقين في منطقة أبو غريب قتل فيه أحد قياديي الكتائب واتهموا في بيان تنظيم القاعدة بالوقوف وراء مقتله " |
وصدرت بيانات تتحدث عن معارك خاضها مقاتلو الكتائب ضد تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين (دولة العراق الإسلامية)، وأكدت المصادر التي أوردت تلك المعلومات أن المعارك تجري في مناطق ديالى التي تقع شمال العاصمة العراقية، وترتبط بحدود واسعة مع إيران، وتصل حدودها إلى مدينة كركوك شمالا، وتحدها من الجهة الغربية محافظة صلاح الدين التي تعد من المناطق الساخنة.
وتزامنت تلك القصة مع عملية عسكرية واسعة أطلقتها القوات الأميركية أسمتها "عملية السهم الحارق" لمطاردة مقاتلي القاعدة الذين ينتشرون بكثافة في مناطق ديالى، ويفرضون سيطرة شبه مطلقة على مدن وقصبات كثيرة في المحافظة.
وطغت قصة التعاون بين كتائب ثورة العشرين والقوات الأميركية لأن ذلك يمثل أخطر تحول في إستراتيجية فصائل المقاومة العراقية.
وبينما غمرت الفرحة أروقة حكومة المالكي، واستقبلت الدوائر الأميركية القصة بحذر، فإن الكثير من المهتمين بالأوضاع العراقية تابعوا القضية بكثير من الحذر ولم يصدروا أحكاما على ما سمعوا واطلعوا عليه عبر وسائل الإعلام.
واعتقد البعض أن المسألة لا تخرج عن إطار الفبركة الإعلامية الأميركية، لكن سرعان ما انتشرت معلومات في الشارع العراقي تتحدث عن مشاركة مقاتلين من كتائب ثورة العشرين مع القوات الأميركية، فازدادت صدمة الذين يعولون على جهد المقاومة العراقية في طرد الاحتلال الأميركي وتحرير العراق للمكانة المهمة التي تحتلها "الكتائب" مع الفصائل الأخرى العاملة في الميدان المقاوم.
ولكن قبل أن يستفحل الأسى في قلوب المحبين والداعمين للمقاومة العراقية، وقبل أن يتفشى الفرح في قلوب الداعمين لقوات الاحتلال الأميركي، تناقلت وكالات الأنباء بيانا صادرا من "كتائب ثورة العشرين" ينفي بصورة قاطعة ما تناقلته وسائل الإعلام حول التعاون بينها وبين القوات الأميركية.
لكن هذا النفي أثار شكوكا جديدة لأنه لم يتوقف فقط عند الرد على ما نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأميركية بتاريخ 20/6/2007، بل أشار الرد إلى نقطتين، الأولى التأكيد على أن كتائب ثورة العشرين لا وجود لمقاتليها في محافظة ديالى في الوقت الحالي، والنقطة الثانية وهي مثيرة للاهتمام جاء فيها الآتي "إذا كان هناك من اشترك من أصحاب النفوس المريضة وممن يخشون إعلان تعاونهم مع المحتل وحكومته العميلة ويدعون زورا أنهم ينتمون إلينا مستغلين علاقات سابقة فإننا نحذر هؤلاء من استغلال ذلك ونحن نعرفهم".
وهدد البيان بفضح هذه الجهة إذا استمرت في استغلال اسم كتائب ثورة العشرين، وقد نشر البيان على موقع الكتائب بتاريخ 20/6/2007.
لقد أوضح هذا البيان مسألة مهمة وأزال بعض الغموض عن القصة، لكن قراءته بدقة تقود إلى طرح مجموعة أسئلة في غاية الأهمية والخطورة، ويمكن إجمالها بالآتي.
فالبيان يؤكد بما لا يقبل الشك أن هناك "مقاومين" يتعاونون مع القوات الأميركية، وأن هؤلاء من بين مقاتلي الكتائب والإشارة تؤكد انفصالهم، وأن الانفصال ليس تمرد أفراد، بل يشمل رقعة جغرافية واسعة هي جميع مناطق محافظة ديالى، وهي من المناطق الساخنة.
وهناك سؤال آخر نعتقد أنه في غاية الخطورة، إذ كيف استبدل مقاتلون عقيدتهم التي يفترض أن تكون راسخة من مقاتلة المحتل الأميركي إلى التعاون معه، وهل يؤكد مثل هذا التعاون ما ردده الأميركيون وشخصيات في الحكومة العراقية عن حوار وتقارب بين فصائل المقاومة العراقية والقوات الأميركية والحكومية، هذه حزمة من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات واضحة لا لبس فيها.
إن العنوان البارز في القضية مثار النقاش هو مقاتلة تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، وما ساعد في تقبل الكثيرين للمعلومات التي تتحدث عن هذا التعاون هي حصول مواجهات بين مسلحين من كتائب ثورة العشرين ومقاتلي القاعدة في منطقة أبو غريب غرب بغداد.
" الأطراف الأميركية والعراقية التي روجت لتعاون المقاومة مع الاحتلال تريد الوصول إلى هدفين أولهما إشاعة الشك والريبة في الأوساط الحاضنة للمقاومة، وثانيهما إرباك صورة المقاومة أمام الرأي العام العربي والدولي " |
وحينها أصدرت الكتائب بيانا يعد الأول من نوعه في بيانات فصائل المقاومة العراقية تحدث عن تلك المواجهات، وأعلن مقتل أحد قيادييه (وهو من عائلة الضاري التي يتزعمها الأمين العام لهيئة علماء المسلمين الدكتور حارث الضاري)، واتهم بيان الكتائب تنظيم القاعدة بالوقوف وراء مقتل القيادي المذكور، وحصلت الصدامات على خلفية عمليات تصفية من الجانبين.
ويشاع أن شخصية قريبة من الطرفين قادت عملية تحقيق وتقص لعمليات الاغتيال تلك، وتوصلت إلى أن منفذيها ينتمون إلى الحرس الوطني، والغرض من ذلك إثارة الفتنة بين أطراف المقاومة بهدف إضعافها وشق صفوفها لتهيئة الأجواء لاختراقها، ومن ثم إنهاء مشروعها المقاوم الذي ألحق الكثير من الأذى بقوات الاحتلال الأميركي.
وبعد ذلك برز تصادم آخر بين تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين ومقاتلي الجيش الإسلامي في منطقة العامرية غرب العاصمة العراقية، وظهر متحدث من الجيش الإسلامي (أبو العبد) وشن هجوما كاسحا ضد تنظيم القاعدة، وأعلن تعاونهم مع القوات الأميركية.
ونشرت صحيفة واشنطن بوست صورة للقائد الميداني في منطقة العامرية للجيش الإسلامي وهو جالس بين اثنين من الضباط الأميركيين، وذكرت أنه قدم معلومات هامة للقوات الأميركية عن مقاتلي تنظيم القاعدة، وأن أحد خطباء الجوامع في المنطقة ساعد القوات الأميركية بالمعلومات.
وبعد فترة أصدر الجيش الإسلامي بيانا فصل بموجبه من سماهم بالمتعاونين مع قوات الاحتلال الأميركي في منطقة العامرية، لكن المفاجأة ظهرت في خطاب صوتي ألقاه أبو عمر البغدادي (رئيس دولة العراق الإسلامية) دعا فيه إلى وحدة الفصائل وعدم الانجرار وراء الذين يعملون على إثارة الفتنة بين المقاومين.
وأشاد في بيانه بالجهود الخيرة التي قال إن قادة من كتائب ثورة العشرين بذلوها وتمكنوا من رأب الصدع بين مقاتليه والجيش الإسلامي، ودشن ذلك نقطة تحول مهمة في العلاقة بين تنظيم القاعدة وكتائب ثورة العشرين التي دخلت في مواجهات مسلحة قبل ذلك كما أشرنا.
إلا أن بروز المعلومات التي تتحدث عن تعاون الكتائب مع القوات الأميركية في مناطق ديالى سرعان ما أعاد إلى الأذهان تلك الأحداث، وتقبله البعض على أنه يستند إلى تلك الخلفية.
أما الوصول إلى إجابات شافية للأسئلة التي أشرنا إليها فلم يكن بالأمر اليسير، غير أن البيانات اللاحقة التي أصدرتها كتائب ثورة العشرين والتصريحات التي أدلى بها المتحدث باسمها (عبد الله العمري) عبر اتصال هاتفي مع قناة الجزيرة أزالت بعض الغموض، خاصة بعد أن اضطرت قيادة الكتائب إلى تسمية الجهة المقصودة بالتعاون مع القوات الأميركية في حربها ضد تنظيم القاعدة أو دولة العراق الإسلامية.
وفجر الحديث بقوة عن هذا الأمر ذلك الهجوم الواسع الذي شنه أكثر من 200 مقاتل ينتمون إلى تنظيم القاعدة على قريتين في مناطق ديالى، وتم قتل أحد شيوخ العشائر وأولاده وأحرق بيته، وصدرت بيانات تقول بأن القتيل أحد قادة كتائب ثورة العشرين، فجاء بيان الكتائب صريحا، إذ جدد نفيه لأي وجود لمقاتليه في منطقة ديالى.
وقال البيان إن القتيل ينتمي إلى (حماس العراق) التي سبق أن انشقت عن كتائب ثورة العشرين، واختارت اسما يوحي بتطبيق تجربة حماس فلسطين التي حاولت المزاوجة بين الفعل المقاوم والعمل السياسي.
" ما يقف وراء وصم كتائب العشرين دون غيرها بالتعاون مع الاحتلال عمل جاد ومبرمج يستهدف المقاومة بأسرها ويتجه للإساءة لهيئة علماء المسلمين التي يتردد في الأوساط الإعلامية والسياسية أن كتائب ثورة العشرين مقربة منها " |
ومن الواضح أنه نتيجة للانشقاق فإن منطقة ديالى أصبحت من حصة القيادات التي تزعمت الانشقاق، لكن المثير للانتباه هو أن حماس العراق لم توضح موقفها، ما يزيد من إلصاق التهمة بكتائب ثورة العشرين.
ويعتقد بعض المراقبين أن الأطراف الأميركية والعراقية التي روجت لهذا الأمر أرادت الوصول إلى هدفين أساسين هما.
أولا: إشاعة حالة من الشك والريبة في الأوساط الحاضنة للمقاومة العراقية من خلال التشكيك بثبات وصدقية المقاومة العراقية بعد إعطاء هذا الإيحاء بتعاونها مع القوات الأميركية المحتلة، والتركيز على اسم واحد من الفصائل البارزة التي بدأت نشاطاتها القتالية في وقت مبكر ضد الاحتلال.
كما أن زج الكتائب في مشروع كهذا يربك قناعات الكثير من الشباب الذي يزداد توقا إلى الانضمام إلى فصائل المقاومة، خاصة بعد أن برز دورها في إلحاق الكثير من الهزائم بالجيش الأميركي.
ثانيا: محاولة إرباك صورة المقاومة أمام الرأي العام العربي والدولي وإظهارها بوجه آخر يتناقض مع ثوابت المقاومة، ما يقلل من الصورة البهية التي بدأ العالم يراها في المقاومة العراقية، وهي تهزم أكبر جيش في العالم وتدمر هيبة أميركا التي تعني الكثير لصناع القرار في البيت الأبيض.
وقد يتساءل البعض لماذا التركيز على كتائب ثورة العشرين دون غيرها من الفصائل حين حصل فيها الانشقاق، وجرت محاولات لجرها إلى معارك داخلية، كان آخرها العمل على محاولة تشويه صورتها بهذه الطريقة.
أنا أعتقد أن ما يقف وراء ذلك هو عمل جاد ومبرمج يستهدف المقاومة بأسرها ويتجه للإساءة لهيئة علماء المسلمين التي يتردد في الأوساط الإعلامية والسياسية أن كتائب ثورة العشرين مقربة منها.
ومعروف أن محاولات عدة جرت لتشكيل مجالس علماء وهيئات بهدف إضعاف دور هيئة علماء المسلمين والتقليل من تأثيرها في الشارع العراقي الرافض والمقاوم للاحتلال وللعملية السياسية.
لكن اتضح فشل جميع تلك المحاولات وبقي تأثير الهيئة قويا وفاعلا لثباتها على خط واضح واحد لم تتزحزح عنه قيد أنملة منذ بداية الاحتلال وحتى الآن، ما أعطاها الثقل الأول في الشارع العراقي، وبالتالي من الطبيعي أن تكون مستهدفة من قبل إدارة الاحتلال وأركان العملية السياسية.
إن حصول الانشقاق في واحد من الفصائل المقاومة المهمة يدل على وجود خلل إداري وتنظيمي، وذلك ليس بالأمر الهين، وانقلاب مقاتلين مقاومين على عقيدتهم القتالية وانسياقهم مع مشروع الاحتلال يعطي مؤشرا على ضعف التعبئة وارتباك الصورة عند بعض المقاتلين من المقاومة، ما يستدعي من قيادات فصائل المقاومة دراسة الظاهرة وتفكيكها إلى العناصر الصغيرة والكبيرة، وتأشير مواطن الخلل ووضع الحلول السليمة، والعمل على تجاوز الهنات الحاصلة هنا وهناك، والأهم هو فضح الأشخاص أو المجاميع التي تتمسك بالانحراف عن الخط المقاوم وإيضاح ذلك للرأي العام دون أي تردد.
إن ما حصل في أبو غريب من تصادمات بين كتائب ثورة العشرين وتنظيم القاعدة وما تبعه في العامرية مع الجيش الإسلامي أمر خطير، لكن ما هو أخطر هو ما جرى في ديالى وعملية التشويه المنظمة التي استهدفت فصائل المقاومة بأسرها والأطراف الوطنية المؤثرة في الشارع العراقي والعربي التي تمكنت من إفشال الكثير من مشاريع الاحتلال الأميركي للعراق وفضح أخطار عمليته السياسية.
__________________
كاتب عراقي